إن الله سبحانه فضَّل الإنسان، وقدَّمه بالعقل واللسان على سائر الحيوان، وجعل نعمة العقل إلى معرفته سبيلاً، وعلى سلوك سُبل النجاة دليلاً، وبيَّن لنا به مناهج الخيرات، ونبَّهنا من خلاله على دقائق المعلومات، وجعل عليه مدار التكليف والواجبات، وسخَّر لصاحبه بقية المخلوقات.
ثم إنه بفضل هذا العقل يصل الإنسان إلى معرفة الملك والملكوت، وهو السبيل إلى معرفة الخالق جل وعلا، وهذه المعرفة تعترضها عقبات كؤود؛ لأن المعرفة تصدر عن الحاكم الحسي، أو الحاكم الوهمي، أو الحاكم العقلي، والذي يوصل من هذه الثلاثة: هو الحاكم العقلي فقط.
ومن هنا زلَّت أقدام كثيرٍ من المتكلمين كالمعتزلة ومن لفَّ لفَّهم في آرائهم؛ لأنهم بنوها على الوهم والخيال مما أدى بهم إلى اعتماد أقيسةٍ فاسدة، فنَّدها أهل العلم، ومنهم الإمام الغزالي؛ فقد ردَّ عليهم بهرجهم وعُوارهم، وضبط بدقيق الفهم معيار المعرفة الصحيحة، ووزنها بالقسطاس المستقيم، وأسَّس بناء كتابه على خمسة أقيسة منطقية معروفة: الحملي الاقتراني بأشكاله الثلاثة، والشرطي المتصل، والشرطي المنفصل، وهي الموازين الحقيقية التي يوثق بها في كل ما يوزن فيها، فقرَّب الإمام الغزالي هذه الموازين للأفهام، وألبسها لباساً إسلاميّاً، واستخرجها من كتاب الله، وغيَّر ألقابها تقريباً للأفهام، ثم عضد ذلك بأمثلةٍ من الفقهيات، يفهم من خلالها الأمر الخفي بما هو الأعرف عند المخاطب.
لذا فإن الإمام الغزالي يعتبر نقطة تحولٍ مهمة في علم المنطق؛ إذ لم يجعله آلة لفهم العلوم المنطقية فحسب، بل جعله معياراً وميزاناً لفهم جميع العلوم الدينية والدنيوية على حدٍّ سواء، وجعل أسلوب الكلام على صورة حوار جدلي ينبض حيويةً وقوةً، ويفيض متعةً وإشراقاً، بلغةٍ هادئةٍ لينة، خاليةٍ عن التعصُّب المقيت؛ لإظهار الحق على وجهه، دون رفعٍ للأصوات، وشتمٍ وسبٍّ بين المتناظرين، مع فوائد جمة، وقضايا مهمة، ونظريات قيمة ضمن ثنايا هذا الكتاب، فإليكم القسطاس المستقيم