لم يبلغ كتاب من كتب الأدب ما بلغته هذه المقامات، التي أبدع إنشاءها الأستاذ الرئيس: أبو محمد القاسم بن علي الحريري؛ من نباهة الذكر، وبعد الصيت، وتمام الشهرة، كما أن العلماء في جميع الأقطار العربية أخذوا يتدارسونها في المدارس والمعاهد، ويقرؤونها في الأندية والمحافل.
وهذه المقامات عمل فني رائع منقطع القرين، حوى من متخير الألفاظ، وأرقى الأساليب، وناصع البيان، مع إحكام السبك وإشراق الديباجة، والبعد عن الركاكة والابتذال.. ما جعلها قمة في الآداب العربية، ترتفع عن مقام المتحدي والمعارض على السواء.
وقد صاغها مجالس متنوعة، تختلف موضوعاتها باختلاف البلاد التي تخيل أنَّه زارها ورحل إليها؛ ما بين فرغانة وغانة، وأفرغها في قوالب طريفة في الأدب والنقد والوعظ والفكاهة، يتخلَّلها وصف للمجتمع وأحوال الناس.
وجعلها في أسلوب السجع الكامل، بعد أن وشَّاها بألوان البديع؛ من الجناس والطباق والمقابلة.
وإن كان لهذه المقامات منزلة عند القدماء عبَّر عنها ياقوت بقوله: (وافقه من السعد ما لم يوافق مثله كتاب؛ جمع بين الجودة والبلاغة، واتّسعت له الألفاظ، حتى أخذ بأزمتها، وملك ربقتها، وأحسن نسقها؛ حتى لو ادَّعى الإعجاز.. لما وجد من يدفع صدره، ولا يردّ قوله، ولا يأتي بما يقاربها، فضلاً عن أن يأتي بمثلها، ثم رُزقتْ مع ذلك من الشهرة وبعد الصيت، والاتفاق على استحسانها من الموافق والمخالف ما استحقت به وأكثر).. فإنها لم تخل من نَقْدِ بعضهم وتجريحهم له؛ منهم ابن الأثير في «المثل السائر»، وابن الطقطقي في «الآداب السلطانية».
وطبعتنا هذه قد ازدانت بشرح واف للمقامات، حاوٍ لما تفرق من الشروح، جامع لشتى الفوائد والمعارف.
ولقد كان الأوائل من أحرص الناس على قراءتها، وفهم محتواها، ومعرفة أساليبها؛ ولذلك حرص النبهاء على حفظها، والتشبع بأساليبها؛ إذ هي كما قيل: (فاكهة المجالس) وقمة الأدب المنثور الراقي؛ وذلك لتوسع مدارك طالب العلم في لغة القرآن، وترسخ أفكاره بالإحاطة بأساليب أهل البيان، وتكون بينهم وبين لغة الضاد ألفة والتئام، معينة على تقويم اللسان والتوسع في فهم المفردات اللغوية.
وحرصاً من دار المنهاج على إحياء الكتب العتيقة النادرة.. فقد قامت باعتماد الطبعة البولاقية، وأجرت عليها لمساتها الفنية والطباعية؛ وقامت بترميم الكتاب حرفاً حرفاً بشكل فائق الدقة؛ حتى تستمتع العين بالنظر إليها، ويسهل القراءة فيها، كما قامت اللجنة العلمية لدى الدار بمراجعتها؛ بغية تصحيحها وتنقيتها من بعض الأخطاء الواضحة