لقد دعا النبي لحامل سُنَّته ولمبلغ شريعته بنضارة الوجه فقال : «نضَّر الله وجه امرئٍ سمع مقالتي فحملها؛ فرُبَّ حامل فقهٍ غيرُ فقيه، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
وحث جميع أمته على تبليغ أحاديثه فقال: «بلِّغوا عني ولو آية» فكلَّف وشرَّف وخفَّف .
وسمَّى مُبَلِّغ السنة النبوية خليفةً له ؛ حيث دعا لهم فقال: «اللهم؛ ارحم خلفائي، الذين يأتون من بعدي، يروون أحاديثي وسنتي، ويعلمونها الناس»، فشمر العلماء عن سواعدهم وسابقوا الزمن لجمع سنته المطهرة.
وكان الإمام ابن ماجه القزويني ممن حاز قصب السبق، حتى تصدَّر رحمه الله تعالى بين الستة الأوائل ممن جمعوا دواوين السنة النبوية الشريفة، فألَّف كتابه «السنن» الذي امتاز بحسن التبويب والترتيب؛ لذا فهو يُعَدُّ ركناً ركيناً من مصادر السنة النبوية، وأصلاً أصيلاً من الكتب الحديثية، وغدا أحد المناهل العذبة؛ والمنهل العذب كثير الزحام.
فاهتم العلماء بكتاب ابن ماجه وألَّفوا فيه المؤلفات إلا أنها كانت قاصرة عن شأوه؛ حتى قيَّض الله سبحانه وتعالى الشيخ العلامة المتفنن المحدِّث محمد الأمين الهرري – حفظه الله تعالى – لهذه الغاية، فشرحه شرحاً لم يُسبق إليه؛ وكما قيل: فمواهب المولى لا تختصُّ بزمنٍ دون زمن.
ورحم الله إمام اللغة أبا عبد الله جمال الدين ابن مالك (ت 672 هـ) حيث قال في «التسهيل»: (وإذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية.. فغير مستبعدٍ أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين، أعاذنا الله من حسدٍ يسدُّ باب الإنصاف، ويصدُّ عن جميل الأوصاف) انتهى.
فشرحه شرحاً محكماً؛ وذلك بتلقيح بنات الأفكار، واستجلاء المعاني من خدور الأبكار المتمنعات، بعد أن أتحفنا بكتبٍ عديدةٍ هي خير شاهدٍ على تبحره في العلوم، المنطوق منها والمفهوم.
فمن مؤلفاته: كتاب «حدائق الروح والريحان» في تفسير القرآن الكريم في (33) مجلداً، وكتاب «الكوكب الوهاج والروض البهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج» في (26) مجلداً، كلٌّ منهما موسوعةٌ في بابه، بل له أيضاً المؤلفات النافعة في شتى أنواع الفنون والعلوم من تفسير وحديث، ولغة وصرف، وأدب ونحو وعروض إلى آخر ما هنالك.
هذا؛ وقد اعتمد المؤلف حفظه الله تعالى على أفضل نسخ المتن وأصحها مما تطمئن إليه القلوب، وتسكن إليه النفوس؛ وهي النسخة التي حُقِّقَتْ على نسخ عديدة نفيسة عتيقة، فجمع هذا الشرح الحُسْنَيينِ معاً، ولله الفضل والمنة.
وقد امتاز هذا السفر المبارك في شرح سنن ابن ماجه بأمورٍ عدة؛ منها: أنه تصدَّى لإبراز معانيها، وتفصيل أحوال رجال الإسناد فيها، مع ذكر الأحكام الشرعية، والمعاني اللغوية، والفوائد الصرفية، والنكات الحديثية بلغة سهلة ميسرة، حتى صار هذا الكتاب مما لا يستغني عنه عالم فضلاً عن طالب علم.
لقد اعتنى هذا الشرح بدراسة أسانيد ابن ماجه دراسة وافية، وترجم لكل عَلَمٍ منهم ترجمةً موجزة، وبيَّن حال الرواة جرحاً وتعديلاً، وذكر طبقاتهم من كتب هذا الشأن.
وشرح الأحاديث والأخبار كلمة كلمة، وبيَّن غريبها، ووضح مشكلها، وفصَّل مجملها، واعتنى أيضاً بفقه الحديث، وما يؤخذ منه في الأحكام، مع التحقيق في المسائل الخلافية، وأيد ذلك بذكر آراء العلماء وأدلتهم.
مع ذكر اختلاف الروايات من كتب السنة وقارنها برواية ابن ماجه، واهتم أيضاً بتخريج الأحاديث والشواهد والمتابعات تخريجاً موسعاً بذكر من خرجها من الكتب الستة.
وكذلك فقد ذيل بعض الأبواب بملحقات وفوائد وتنبيهات لا يستغني عنها طالب العلم.
وختاماً: فقد صار هذا الشرح كأنه الجامع لشروح ابن ماجه السابقة؛ حيث ألَّف بينها، وجمع ما تفرق فيها، وقرَّب ما بعد عن متناول الأيدي ضمن هذا السفر المبارك النافع الجامع.
حقاً إن هذا الشرح هو موسوعة علمية، لم يترك المؤلف شاردة ولا واردة إلا اقتنصها وقيدها، وأبرزها بعبارةٍ سهلةٍ ميسرة، لخص كلام الأكابر وأورد الغرر البواهر، ولسان الحال يقول: (كم ترك الأول للآخر).
وكم كان سرورنا كبيراً؛ وقد وُفِّقنا إلى خدمة هذا الكتاب المبارك، الذي يعدُّ هديةً سنيةً لأهل الإسلام في كل مكان بحلة فنية تسر الناظرين مع خدمة تليق بأمثاله، فغدا يميس على أترابه، وتفوح بنسمات الندِّ صفحاته.
واللهَ نسأل أن يُكلِّل مساعينا بالتوفيق، وأن يجعل هذا العمل مما يدخل الفرح والسرور إلى قلب الحبيب الأعظم والشفيع الأكرم