عقائديا وسياسيا بين طوائف أهل الإسلام المختلفة، وقد تضيق دائرة التكفير لتشمل أهل السنة فيما بينهم، بل بين أبناء الاتجاه الديني الواحد
في كتابه “تكفير أهل الشهادتين.. موانعه ومناطاته” يتصدى الأكاديمي الشرعي السعودي، المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، الدكتور الشريف حاتم بن عارف العوني، لتفكيك
العوني، ليعيد تركيبها وفق مواصفاتها ومناطاتها الشرعية المقررة عند أئمة العلم المتقدمين
بماذا يثبت حكم الإسلام للشخص المعين؟ يجيب العوني بأن أدلة الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم تثبت إسلام المعين بمجرد نطقه بهما، ويورد أدلة كثيرة من القرآن والسنة وكلام أهل العلم
لتقرير تلك الحقيقة وإثباتها، فدخول الكافر في الإسلام يكون بمجرد نطقه بالشهادتين، وبذا يكون مسلما من أهل الشهادتين، يُعصم دمه وتثبت له حقوق المسلمين
يقول العوني في تقرير ذلك: “ودلت قطعيات الكتاب والسنة والإجماع أيضا: أن من نطق بالشهادتين (أو ما يدل عليها: كما في الأبكم، والجاهل بلفظها)، فقد وجب علينا إثبات دخوله في الإسلام
بمجرد النطق بها، وأن نكل سريرته إلى الله تعالى، وأنه وجب علينا معاملته معاملة المسلم في حقوق إخوته الدينية بدءا بعصمة الدم والمال والعرض، إلى ما دون ذلك من الحقوق”
وركز العوني في المبحث الثاني من كتابه على القاعدة المقررة عند أهل العلم “من دخل الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين”، محذرا من الإقدام على التكفير بغير حق، ومبينا خطورته الشديدة
الكتاب والسنة، ولأنه سيتبع الحكم بالتكفير استباحة دماء وأعراض معصومة قطعا (استباحة حكم فقط، مع إرجاء العمل، أو استباحة حكم وعمل معا، وأحدهما يستتبع الآخر عاجلا وآجلا)”
وانتقد العوني بشدة تسويغ الاختلاف في مسائل التكفير معتبرا أنه “لا يستوي ذلك إلا مع اعتقاد صحة الاعتماد في تقرير مسائل التكفير على الظنون، وفوق ما في هذا الاعتقاد من مخالفة للأدلة
أن التكفير يسوغ الاختلاف فيه، ولا دل النظر العقلي على سواغه..”.
وشدد العوني على أنه “لما كان الدخول في الإسلام ظاهرا بالنطق بالشهادتين أو ما دلّ عليها، ودلت على ذلك قطعيات الكتاب والسنة والإجماع، وأن من ثبت دخوله بهما في الإسلام فقد امتنع إخراجه
من يقين حكم إسلامه؛ إلا بيقين خروجه عن دلالتهما، لا يُكفُر الإنسان إلا بمخالفة يقينية لدلالة الشهادتين، وهي كل يقين ينقض اليقين الذي شهدت به”
ضابط نقض الشهادتين
أوضح العوني أن “حكم النطق بالشهادتين ليس حكما مؤبدا لا يقبل النقض، بل من الممكن أن تُنتقض الشهادتان باطنا وظاهرا، أو ظاهرا فقط، أو باطنا فقط، وأحكامنا البشرية إنما تُناط بالظاهر فقط، فلا
نُكفِّرُ إلا من أظهر لنا ما يُوجِب التكفير، وأما باطنه فيحاسبه عليه المطلع عليه سبحانه وتعالى”
ونظرا لما سبق تقريره من أن دخول المرء في الإسلام يكون بالشهادتين، فوجب أن لا يكون الخروج منه إلا بما به دخل: أي بما ينقض الشهادتين.. وأما المخالفات الأخرى التي لا تنقضهما فهي
الخوارج (ومن شابههم) في الموقف من المعاصي ومن دلالات نصوص الوعيد التي أوهمت التكفير والخروج من الملة..”
وذكر العوني أن “من صور الخطأ في التعامل مع النصوص التي وقع فيها الخوارج، وتسرّبت إلى بعض المتسنّنة: هو حمل النصوص الواردة في الكفار على المسلمين، كما نبه على ذلك الصحابي
الجليل عبد الله بن عمر، حيث قال عن الخوارج “إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها في المؤمنين”
ما هي نواقض الشهادتين؟ تنقسم تلك النواقض إلى قسمين وفقا للعوني
الأول: ناقض الدلالة اللغوية للشهادتين، مناقضة تُكذِّب لفظ الشهادة بها تكذيبا يقينيا، فهو ناقض يسلب الشهادتين دلالتها اللغوية الصريحة، ويجعلها بلا معناها
والثاني: ناقض الشهادتين، لكنه لا يقطع بالنقض، لورود الاحتمال إليه
إذا كان القسم الأول من نواقض الشهادتين يدور على ناقض الدلالة اللغوية للشهادتين، مناقضة تُكذب لفظ الشهادة بها تكذيبا يقينيا، لا يمكن فيها إلا إرادة النقض، كتلبية مشركي العرب، “لبيك لا
شريك لك، إلا شريكا هو لك..” والذي لا عذر فيه بالجهل ولا بالتأول، وصاحبه يكون كافرا بمجرد وقوعه منه، فما هو القسم الثاني من نواقض الشهادتين وهل يصح التكفير به؟
يقول العوني في بيان ذلك: “أما القسم الثاني من نواقض الشهادتين: فهو كل ما ينقض الدلالة اللغوية للشهادتين باللوازم والمآلات التي يُتصور تخلف الالتزام بها (ولو بضعف)، فيُحتمل عقلا
إلا بعد اليقين بأن المعين ملتزم باللازم الناقض للدلالة اللغوية للشهادتين”
ونظرا لأهمية مسألة الإعذار بالجهل في مسائل التكفير، فقد أطال العوني النفس في بحثها، وساق لتقريرها وإثباتها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة وكلام أهل العلم، مؤكدا أن “أدلة الإعذار
بالجهل أدلة قطعية في الشرع (نقليها وعقليها)
مناطات (علل) التكفير
من المقرر عند العلماء أن التكفير حكم شرعي منوط بأسبابه وعلله الشرعية، وقد حكم القرآن على أقوام بالكفر في مواضع عديدة منه، كما أطلق الرسول عليه الصلاة والسلام الكفر على أقوال
وأفعال معينة، وقد درج كثير من العلماء في تصنيفاتهم العقائدية على تقسيم مسائل أصول الدين (العقائد) إلى قسمين: مسائل الأصول، ومسائل الفروع. ورتبوا عليه منع الاختلاف في الأولى، وتسويغ الاختلاف في الثانية
فكيف عالج الكتاب هذا التفريق بين مسائل الأصول وفروعها بحسب التقسيم الشائع والمتداول؟ لم يوافق العوني على هذا التفريق، بل اعتبر “التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع
آخر وتسميته مسائل الفروع: بأنه لا أصل له، لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض”.
وتساءل العوني: “يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع
بعض الأحاديث هي من مسائل الاعتقاد العلمية ولا كفر فيها بالاتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق..”
وناقش العوني المفرقين بينهما باعتبار “الأصول هي المسائل القطعية، بأن كثيرا من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم (الاعتقاد) ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من
النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته..”
في سياق بحثه لمناطات المكفرات من القسم الثاني، قال العوني: “إنه لا يصح التكفير بهذا القسم من النواقض، إلا بعد اليقين بأن المعين ملتزم باللازم الناقض للدلالة اللغوية للشهادتين”، لافتا
إلى بيانه لمناطات التكفير بهذه المكفرات، “لكي لا تكون محاربتنا للتكفير مانعة من تكفير من يستحق التكفير، ولا أن يكون تقريرنا التكفير سببا للتوسع فيه، من غير تحرير مناطاته”
وبناء على مآخذ التكفير وعدمه كقاعدة أن “من دخل في الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين”، وأن “يقين الدخول في الإسلام يكون بالشهادتين أو ما يقوم مقامهما”، وأن “الجهل والتأوُّل مانعان
من إيقاع التكفير بهذه المكفرات على المعين؛ لأنهما يُوردان الاحتمال المانع من تيقن الإخراج من الإسلام”
بعد تذكيره بتلك القواعد والمنطلقات، قرر العوني أنه “لا يمكن التكفير بإنكار معلوم من الدين بالضرورة؛ إلا مع اليقين بأن المنكِر يعرف كونها من الدين، فيكون تكفيره بعد التيقين من معرفته كونها
من الدين: إما للتكذيب، أو لاعتقاد عدم وجوب الطاعة: عنادا أو إعراضا، أو عدم يقين بالشهادتين (كالشك)، لأنه لا معنى للإنكار في هذا الحالة إلا ذلك”
وخلص العوني إلى القول “وكل قطعيات الدين تدخل في هذا الحكم: لا يُكفر منكرها إلا إذا عاد إنكاره صراحة إلى نقض دلالة الشهادتين نقضا يقينيا، وهذا لا يتم اليقين به؛ إلا إذا علمنا يقينا
أن هذا المنكر عارف بصحة نسبة ما أنكره إلى الشرع”
يمثل المبحث الرابع من الكتاب أهم مباحثه وفصوله، إذ توسع العوني في مناقشة مناطات التكفير لمسائل وقضايا يكثر حولها الجدل، كالتفكير بالمعلوم من الدين بالضرورة، فما هو المعلوم من
يقدم هذا الكتاب بنمطه التحقيقي المتميز، ومعالجته البحثية الموثقة، نسقا مغايرا للمعالجات الدينية السائدة في أوساط الجماعات الإسلامية التي تستسهل التكفير وتهجم عليه بظنون متوهمة
المؤلف : الشريف حاتم بن عارف العوني
الناشر : دار نماء
سنة النشر : 2016 م الطبعة الثانية